أخبار الثقافة والفن

أيمن منصور الجملي يكتب..الأساليب الإنشائية وفاعليتها في قصيدة: (لكنَّ وَحلَ (بني قريظةَ) أوحـلُ) للشاعر/ أحمد قنديل

 

لا شك أن الأستاذ الشاعر/ أحمد قنديل علامة مضيئة في صعيد مصر، وله مكانة كبيرة في قلوب شعراء العربية، وله أثر كبير يعرفه القاصي والداني في تقديم التجارب للساحة الشعرية.

وقد تأخرت هذه القراءة كثيرا، لكن بفضل الله سبقني بالكتابة عن تجربته عدد كبير من النقاد والباحثين.

وفي هذه القصيدة للشاعر أحمد قنديل، تتجلّى الأساليب الإنشائية بوصفها إحدى الركائز التعبيرية التي تسهم في بناء المعنى وتكثيف الدلالة، حيث تؤدي وظيفة جمالية.. تتجاوز حدود التزيين البلاغي إلى التورط المباشر في تحريك النَّسَق الدلالي، واستثارة المتلقي، وبث الحماسة، وتحفيز التأمل، واستدعاء التوتر الوجداني في سياق يتأرجح بين الرؤية الحربية والموقف الأخلاقي والبعد الرمزي.

يُلاحظ أن الشاعر يعتمد على طائفة من الأساليب الإنشائية بنوعيها الطلبي وغير الطلبي، ويُكثر خصوصًا من الإنشاء الطلبي كالنداء، والأمر، والاستفهام، والنهي، في محاولة لتوظيفها توظيفًا دلاليًا يخدم البنية الشعورية والصوت الخطابي للقصيدة. وليس الهدف من هذه الأساليب مجرد المحاكاة الشكلية لأجواء الملحمة أو التحريض، بل هي آلية لتجسيد الحضور الفاعل للمتكلم بوصفه جزءًا من المعركة وموجهًا لوعي الآخر.

الأمر، مثلًا، يُستخدم بوظيفة تعبويّة تتجاوز الدعوة المباشرة للفعل، إلى غرس الإيمان بالجدوى وتثبيت الموقف، مما يمنح النص نوعًا من الإيقاع النفسي المرتبط بالفعل المقاوم. إن فعل الأمر لا يُوجَّه في القصيدة إلى الآخر الفردي فحسب، بل إلى الجماعة والضمير الجمعي، في نسق يجعل الشاعر أشبه بقائد معنوي يحرّك الساكن في زمن التردد. يتكثف هذا حين يُصاغ الأمر بصوت داخلي ينبع من ذات المتكلم كما لو كان يخاطب نفسه – في لحظة مراجعة – وفي الوقت ذاته، يخاطب الآخرين كامتداد لنفسه.

أما أسلوب الاستفهام، فقد ورد بفاعلية رمزية لا تبحث عن إجابة بقدر ما تهزّ يقين المتلقي، أو تؤكد غموض المصير، أو تستنطق المفارقة الزمنية بين “الآن” و”الموعد المضروب”. الاستفهام هنا لا يرنو إلى استكشاف المعنى بقدر ما يشكّل قلقًا معرفيًا وزلزلة لسطحية الإدراك، فكأنه – في بنيته الضمنية – رفضٌ لصيغ الانتظار التقليدية، وتفكيك لنمطية التفكير التبريري الذي يراهن على المستقبل دون حراك في الحاضر.

النداء كذلك يظهر في خلفية النص كمحفز استدعائي يستنهض الغائب – سواء كان واقعًا أم حلمًا – ويُبقي حالة الاستنفار مفتوحة، بينما يتخلل النهي القصيدة بدرجة أقل لكنه يظهر بوظيفة تحذيرية لا تنبع من سلطة فوقية، بل من تجربة مباشرة تستبطن الألم والخبرة. إنه نهي ينبثق من داخل الكينونة المقاومة، ويصدر عن ضمير يدرك أن الإعلان المسبق عن الرحيل (مثلاً) قد يصيب الأبناء بالخذلان، في سياق يؤمن بأن الإيمان بالنصر شرط من شروط تحقيقه.

من جهة أخرى، فإن تنوع الأساليب الإنشائية وتكرارها في نسيج القصيدة يسهم في إنتاج إيقاع داخلي نابض يتماشى مع التوتر الوجودي العام في النص. فهي ليست مجرد أدوات تعبير، بل هي أركان توليدية للمعنى، تفضح أحيانًا هشاشة الذرائع، وأحيانًا تشحذ وعي المتلقي بما هو مقبل، أو بما يجب أن يكون.

الملحوظ في هذه القصيدة أن الأسلوب الإنشائي لا يعمل في معزل عن بقية الأدوات البلاغية والدلالية، بل يتضافر مع المفردات، والصور، والتراكيب، ليصوغ موقفًا إنسانيًا مشحونًا بالتمرد، ممزوجًا بالحكمة، مشوبًا بالخوف والرجاء، قائمًا على استدعاء تاريخي موارب، حيث يتم توظيف “بني قريظة” كمفتاح رمزي لمدلول عميق يتجاوز المحكيّ الظاهر، ويطرح أسئلة أخلاقية تتعلق بالخيارات في لحظات المصير.

وبذلك، فإن الأساليب الإنشائية في هذه القصيدة ليست طارئة على النص أو مفروضة عليه، بل هي جزء من لحمته العضوية، تندمج في النسق التعبيري بوصفها مولدة للحركة، ومحفزة على الفعل، وناقلة للصراع من مساحاته التاريخية أو الرمزية إلى رحابة الواقع الأخلاقي المعاصر. إنها تحقّق، في نهاية الأمر، أحد شروط الشعر الملحمي: التورط الحيّ في لحظة المقاومة، والانفتاح على أفق البطولة من زاوية الذات الواعية والمشتركة.

تكشف قصيدة “لكنَّ وَحلَ بني قريظة أوحلُ” لأحمد قنديل عن بنية خطابية تتكئ على تنويع الأساليب الإنشائية لتفعيل الإيقاع النفسي والمعنوي للنص، ولتوجيه المتلقي نحو رؤى محددة تعكس موقفًا وجوديًا وسياسيًا وأخلاقيًا من العالم والحدث. إن توظيف هذه الأساليب لا يأتي تزيينيًا، بل يؤدي دورًا وظيفيًا واضحًا في تشكيل دلالة القصيدة وتكثيف طاقتها الإيحائية.

يبدأ الشاعر ببنية اعتراضية تعتمد حرف الاستدراك “لكنَّ”، الذي يعلق المتلقي منذ اللحظة الأولى في حالة من التوتر والترقب، فالحرف لا يحيل على جملة متقدمة، مما يمنح هذا القطع الافتتاحي وظيفة درامية تُفضي إلى البناء على صدمة المعنى لا على اكتماله. ويظهر ذلك في قوله:

لكنَّ

وَحلَ (بني قريظةَ)

أوحـلُ

الاستدراك هنا، بتركيبه القائم على حذف المقدمة، يُحدث فجوة دلالية تملؤها الصدمة التاريخية والمعنوية المضمرة، فتغدو البنية الإنشائية حاملة لأسى وجودي واستدعاء لتاريخ مثقل بالخيانة.

ثم يفعّل الشاعر الأسلوب الأمر في قوله:

اركضْ برجلكَ

فوقَ صخرِ عنادهم

الأمر هنا ليس تقريرًا، بل تحريض يحمل طابع الإصرار والمواجهة. تتعزز قيمة الفعل “اركض” بكونه محمّلاً بطاقة انفعالية تنقل المتلقي من السكون إلى الفعل، من التنظير إلى الميدان، ليصبح الأمر نداءً وجوديًا يوجَّه إلى الذات وإلى الجمع القومي في آن.

وفي موضع آخر، يتكرر الأسلوب الإنشائي في الاستفهام:

فهل له

غيرُ الكتائبِ

ساعدٌ يَتَحمَّلُ؟

السؤال هنا لا يطلب جوابًا، بل هو سؤال تقريري إنكاري يؤكد المعنى عكسًا: لا شيء غير الكتائب يحمل المجد. فالاستفهام الإنكاري يُستخدم لإبراز المفارقة بين الواقع والمأمول، وبين العاجز والفاعل، في تواشج حاد بين البنية النحوية والدلالة السياسية.

ويواصل الشاعر البناء على الأساليب الإنشائية باستخدام النفي، كما في قوله:

لاأينَ

ينتظرُ الوصولَ

ولامتى

النفي هنا لا يُقصَد به محو المكان أو الزمان، بل فضح عقم الانتظار وكشف عجز الذين لا يتحركون. فتكرار “لا” في إطار استفهامي محذوف المقدمات يعمق من شعور القلق والتيه الوجودي.

ويأتي فعل الأمر مجددًا في قوله:

فاملأ جعابَكَ

قد يطولُ بقاؤنا

هذا الفعل يحثّ على الجاهزية، ويضفي على القصيدة طابعًا ملحميًا، تُترجم فيه الإنشاءات إلى أدوات للبقاء والصمود، حتى حين تتحول وسادة الحلم إلى خيبة:

ما تقولُ وسادةٌ

للحالمينَ

وحلمهمْ سيؤَّوَلُ

فالسؤال هنا رمزيّ، يستخدم “الوسادة” كعلامة على السكون والحلم، لكنه يقلب دلالتها إلى وعاء فارغ لا يفضي إلى النجاة، مما يُكسب النص بُعدًا فلسفيًا يربط الحلم بالوهم.

وفي مقطع آخر، يخترق الشاعر السكون بفعل الأمر المتكرر:

لا تُخبر الأبناءَ

أنَّكَ ذاهبٌ

فالمنع هنا أسلوب إنشائي يتجاوز النهي ليغدو كتمانًا بطوليًا، وإشارة إلى استمرارية الصراع. الإنشاء في هذا السياق يصبح وسيلة دفاعية نفسية، حيث تُخفي الذات الحقيقة عن الأبناء لتبقي جذوة الأمل مشتعلة.

كما نلحظ فعلًا إنشائيًا منسوبًا إلى الفرس، في حوار رمزي عميق:

قالَ لي الحصانُ

مُبادِراً :

عَجِّلْ

فإنِّي قبلَ سُؤلكَ

أعجلُ

وهنا يتحول الإنشاء إلى دفق حواري تتداخل فيه الحكمة مع العجلة، وتُجسّد الذات الحصانية استعجال المصير، مما يعمّق من تيمة التردد والتسويف بوصفها مأزقًا أخلاقيًا. وهو ما يتبعه الشاعر بتبرير ذاتي باستخدام النفي مرة أخرى:

كَي لا يُقال :

بأنَّني أتعجَلُ

وفي ذلك تأسيس لتقابل ثنائي بين المبادرة والتأني، بين الضرورة والمجاملات الاجتماعية، مما يكشف عن صراع داخلي يُبنى بأساليب إنشائية متسلسلة.

ثم يختتم الشاعر بإحدى أكثر الصور الإنشائية تلميحًا وحكمة:

فَالرعدُ

لايَروي السَّنابلَ إنَّما

ما بعدهُ المطرُ

الذي يَـتَـنَـزَّلُ

وهذا التركيب الإنكاري ـ الشرطي، يُغني عن المباشرة، ليقدّم حكمة مضمرة: الأصوات العالية لا تكفي، بل الفعل الهادئ بعد الصخب هو الذي يصنع التغيير. وهذا إنكار يُسهم في تعميق موقف الشاعر من الفعل الحقيقي مقابل الضجيج الخطابي.

كل هذه الإنشاءات لا تأتي عبثًا، بل تؤدي أدوارًا تركيبية ومعنوية في القصيدة، حيث تُشحن البنية الخطابية بطاقة نداء داخلي عميق، وتعكس تعدد الأصوات داخل الذات الشاعرة: صوت الحالم، وصوت الجندي، وصوت الفرس، وصوت الأب، وصوت المقاتل، وكلها تتقاطع في مشهد وجودي واحد يعبّر عن أزمة الأمة ومعضلتها الأخلاقية والتاريخية.

إن فاعلية الأساليب الإنشائية في القصيدة لا تنبع من كميتها فحسب، بل من تكثيفها الدلالي وتوظيفها البنائي في خدمة الموقف الشعري. فهي ليست وسائل لغوية بل مفاتيح إدراك ورؤى، تتوالد عبرها الأبعاد النفسية والسياسية والتاريخية التي تنهض بها هذه القصيدة إلى مقام الخطاب المقاوم، الغني بالمجاز والدلالة، والعميق بالبعد التأويلي.

باختصار، الإنشاء في هذه القصيدة ليس زينة بل أداة مقاومة، وجسرًا بين الذات والتاريخ، ونداءً مفتوحًا نحو أفق لا يُطال إلا بالفعل والوعي، لا بالأمنيات أو الحياد.

في ختام هذا التناول، تبرز قصيدة “لكنَّ وَحلَ بني قريظة أوحلُ” عملاً شعريًا مشحونًا بجماليات الإنشاء لا بوصفه ترفًا لغويًا، بل بوصفه طاقة إيقاظ وإضاءة. إن التوظيف الماهر للأساليب الإنشائية يجعل من القصيدة خطابًا حيًّا، نابضًا، يتحرك بين النداء والإنكار، بين السؤال والنهي، ليرسم بانسيابية مركّبة لوحة وجدانية ذات زخم درامي وتاريخي، تُحاور الحاضر وتستدعي الماضي وتفتح أفقًا للمستقبل.

القصيدة، في جمالها العميق، تشبه صخرة تقطر بالماء: صلابة المعنى وقوة الموقف، يقابلها انسياب اللغة ورقة التشكيل. وكل جملة إنشائية فيها ليست مجرد بناء لغوي، بل سهمٌ باتجاه القلب، أو مرآة تنعكس عليها أزمتنا الكبرى في فهم المجد، والفعل، والزمن، والخيانة، والأمل.

هكذا يتجلى الجمال الحقيقي في القصيدة: ليس في زخرفة اللفظ، بل في انصهار الشكل بالغاية، وفي تحوّل الأساليب الإنشائية إلى نبضات إيقاظية تهزّ الوجدان وتؤسس لنص يقاوم النسيان، ويحيا بفعل التأويل المستمر.

ــــــــــ

أيمن منصور الجملي

قد يهمك أيضا:

قصيدة شعر: قابلة الشرر.. للشاعرة جيهان لطفي ابراهيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى